التفكير النقدي بدقة

في صيف 2013، أقامت الجامعة الأمريكية في بيروت حفل افتتاح أكاديمية التربية الإعلامية والرقمية. والتي كانت ذروة عدة مشاريع بحثية، جلسات عصف ذهني، مؤتمرات وورشات عمل على مدار الخمس سنوات الماضية. استندت الأكاديمية على نموذج دراسة في الخارج تستخدمه أكاديمية سالزبرغ حول الإعلام والتغيير العالمي وهي متجذرة في المناهج التقليدية للتعليم حول الإعلام النقدي، الذي استخدم لأول مرة في أوروبا عام 1950، ومن ثم تم تبنيه من قبل الولايات المتحدة ومؤخراً حول العالم. في الدفعة الأولى شارك خمسون طالب/ة وأكاديمي/ة من لبنان، سوريا، فلسطين، العراق، والأردن. وهذا العام توسعت لتشمل مشاركين من بلدان عربية أخرى.

في هذه المقابلة، يتحدث د. جاد ملكي، مدير برنامج دراسات الإعلام وأستاذ مساعد في الصحافة والإعلام في الجامعة الأمريكية في بيروت، عن أهمية التربية الإعلامية والرقمية للمنطقة العربية.

نور بعلبكي (ن.ب): هل تستطيع أن تصف لنا عمل المركز؟ ماهي المواضيع الرئيسية التي تعالجونها في ورشة العمل الصيفية الممتدة لأسبوعين؟

جاد ملكي (ج.م): عندما برز مجال الدراسة هذا، كان سببه تقدم التلفاز والإعلام الجماهيري الإلكتروني بصورة عامة، والخوف من أن الإعلام سيؤثر فينا بطرق عديدة، وخاصة السلبية منها، مشكّلاً آراءنا عن العالم، وأفعالنا ومعتقداتنا. محو الأمية الإعلامي كان استجابة لهذا القلق، نماه حس بالواجب من قبل الأكاديميين الذين يجب أن يبنوا التفكير النقدي لدى مستهلكي هذا الإعلام. بمعنى آخر، بناء مستهلكين نقديين للإعلام قادرين على فهم كيف تبنى الرسائل الإعلامية، كيف يبنى الترفيه، ويفهمون ماهي التأثيرات السياسية، الإقتصادية، التكنولوجية، والإجتماعية على هذه البنى وكيف يمكن أن تؤثر فينا كأفراد، مجموعات، ومجتمعات. بدأت الأكاديمية بتدريس مواضيع متنوعة، بما فيها الترويج، الآثار السلبية للإعلانات، العلاقة بين الإعلام والأعمال، ومواضيع محلية أخرى تطورت مع الوقت. أصبح التركيز كبيراً على محو الأمية الرقمية والإعلام النقدي، خاصة مع تنامي دور الإنترنت اليوم والتكنولوجيا الرقمية والإتصالات اللاسلكية. نحن لا ندرّس فقط القراءة النقدية للنصوص الإعلامية، ولكن كيفية استخدام الأدوات الرقمية المجانية المتاحة بوفرة للتعبير عن الرأي، مناصرة المعتقدات، وتبادل المعلومات، والإنخراط في نقاشات دولية وثقافة تشاركية- بمعنى آخر تمكين الأفراد والمجموعات.   

نشجّع المشاركين في الأكاديمية ليأخذوا هذا المنهاج إلى جامعاتهم ويدرّسوه لطلابهم. فهذا هو الهدف الأساسي للأكاديمية. نحن الآن نقدّم محاضرات أكثر تطوّراً، وبعض الطلاب الذين تخرّجوا من هذا التدريب سيعودون لإلقاء المحاضرات الصيف المقبل، وبالتالي نقوم ببناء القدرات المحليّة ولا نعتمد كثيراً على المحاضرين والمتحدثين الأجانب. لكننا سنستمر بدعوة مدرّبي إعلام عالميين ليشاركوا ويلقوا محاضرات في الأكاديمية.

(ن.ب): ماهي المواضيع الأساسية التي تتناولونها؟

(ج.م): في المواضيع التمهيدية نغطي التالي: ماهو محو الأمية الإعلامي؟ وماهي أساليبه المختلفة؟ ما هو موقع التعليم عالمياً؟ مكانة الإعلام في العالم العربي، الثقافة ونفوذ الإعلام وتأثيره على المجتمع. ومن ثم ننتقل إلى مواضيع أكثر تقدماً مثل: صورة العرب والمسلمين في الإعلام، توصيف المرأة كسلعة في الإعلام، الترويج، كيفية تحليله، كيفية حماية نفسك منه، فيما إذا كان إخبارياً، ترفيهياً، أو حتى كوميدياً. عوامل ثؤثر في بناء الخبر، الجانب المظلم للإنترنت: تهديدات تتعلق بالخصوصية والرقابة يجب أن يعيها الناس، ألعاب الفيديو والأطفال والعنف، طائفية وعنصرية الإعلام. على مستوى المهارات الرقمية، نعلم الطلاب كيفية تحرير الصور- من منظور نقدي- إذ لا يتعلمون فقط نظرياً عن قوة الصور وكيف يتم التلاعب بهذه الرسائل، لكنهم يختبرون عملياً كيف يتم بناء هذه الصور. بشكل مماثل، يتعلم الطلاب إنتاج الملفات الصوتية، تحريرها وتحميلها على الإنترنت، كيفية تحليل بيانات التويتر وشبكات التواصل الأخرى، وأخيراً بعض مهارات تحرير الفيديو.

 (ن.ب): ما الدور الذي يلعبه "التفكير النقدي" في عملكم؟ إلى أي مدى تلاحظون اختلافاً في أسلوب الطلاب كونهم يأتون من بلدان وخلفيات تعليمية، اجتماعية وسياسية مختلفة؟

(ج.م): دائماً ننظر إلى وجود طلاب من بلدان وخلفيات تعليمية، اجتماعية وسياسية مختلفة ويحملون أساليب مختلفة كتحدي. لكننا توقعنا ذلك، ولم يكن الأمر عائقاً هذا العام. بصراحة، في مجتمعاتنا، يوجد الكثير من التحيّز الجنسي، العنصرية، والطائفية وكل إيديوليجية أخرى في العالم، وإن لم تتم مواجهة الناس بهذه المواضيع ولم يتم تحدي معتقداتهم الراسخة، سيعيشون حياتهم غير مدركين ماهو الصواب وماهو الخطأ. بالرغم من أننا لسنا هنا لتغيير عقول الناس وآرائهم، أو إجبارهم على اتباع هذه الإيديولوجية أو تلك، غير أننا نقول لهم ما الطروحات الموجودة وكيف يمكن أن تؤذي الناس. نعطيهم بعض الأدوات ليفكروا نقدياً بمسائل معينة غير مرئية بالنسبة لهم إلى حد بعيد. على سبيل المثال، كنت أتناقش مع أحد تلاميذي حول مقال كتبه أحد الصحفيين التقدّميين في جريدة الأخبار. في مقالته، كان الصحفي يدافع عن مديرة أخبار، لكن في دفاعه عنها كان يمتدح شكلها وطريقة لباسها ويطري على صفاتها الجسدية. ولكن عندما كان يدافع عن مدير أخبار ذكر، ركّز فقط على قدراته الفكرية، خبرته، ووطنيته. من نواح كثيرة، لايرى الناس في ذلك تحيزاً جنسياً، لكنه تحيز جنسي، لأن الرسالة السلبية التي نرسلها هنا للنساء الراشدات والطفلات اللواتي سيصبحن نساءً ناضجات في المستقبل هي: ‘أهم صفة للمرأة، مهما كانت مهنية، ذكية، منجزة، وناجحة- هي مظهرها الخارجي، وإن كنت امرأة عليك الإعتناء بذلك أولاً ولا تهتمي لأي شيء آخر.‘ عندما نربّي أولادنا هكذا، وعندما يعكس الإعلام ذلك ويصور المرأة بتلك الصورة كل الوقت، سينعكس هذا على ما تركز عليه وتهتم به النساء في مجتمعنا. عندما يتعلق الأمر بالرجال، الأمر مختلف: هنا يركز الإعلام على إنجازاتهم، ذكائهم، فطنتهم إلخ- من يهتم لمظهرهم؟ كان الطالب يقول لي من المحزن أن هذا الرجل، وهو أحد أكثر الصحفيين تقدمية في البلاد، لا يدرك ما يفعل بمثل هذا التوصيف المتحيّز جنسياً. وهذا من وجهة نظر نقدية.

بالعودة إلى موضوع الخلفيات والثقافات والديانات المختلفة، مشكلتنا الحقيقية كانت أن المشاركين على مستويات أكادمية مختلفة. بعض المشاركين على مستوى عالٍ من التفكير النقدي والمهارات الرقمية، والبعض الآخر بالكاد يمتلك أيّاً منها. وضعنا الجميع في الغرفة ذاتها وكان ذلك محبطاً قليلاً بالنسبة للمشاركين المتقدمين، إذ بدأنا بالأساسيات. أما بالنسبة للمشاركين الذين لا يمتلكون معرفة سابقة، شعروا بالسوء وكان عليهم أن يبذلوا مجهوداً أكبر ليواكبوا الآخرين. في أحد التمارين، على سبيل المثال، والذي يتطلب من الطلاب انتقاد إعلانات- بالتركيز على صورة الجسد، وكيفية تصوير المرأة- أحد المشاركين الذي لم يتعرض لمثل هذه المواضيع من قبل، لم يظهر أيّة مهارات نقدية على الإطلاق! نظر إلى صورة لإمرأة بلباس مستفز وبوضعية خانعة، يحيط بها مجموعة من الرجال المسيطرين الذين ينظرون إليها من الأعلى وأسد ضخم بفم مفتوح وأنياب ظاهرة قرب عنقها. هذا الطالب لم ير أن المرأة في موقف ضعيف! أعتقد أنه حتى وصفها بأنها تصوير طبيعي أو عادي للمرأة. عند ذلك، انتقده العديد من الطلبة، مما جعله يشعر بالإحراج، وخاصة أنه كان واحداً من الخريجين الأكبر سناً الذين يفترض بهم معرفة هذه الأمور الأساسية، لكن هذا يشير إلى الحاجة الماسة للتفكير النقدي ومحو الأمية في مجال الإعلام في هذا الجزء من العالم. الموضوع الآخر هو العنصرية والتمييز الطائفي الفظ؛ بعض المشاركين كانوا يعتقدون أنهم أفضل من غيرهم فقط بسبب دينهم، المجتمع الذي ينتمون إليه، ثقافتهم، أو مؤسستهم. لذا قمنا بمعالجة الأمر مباشرة وأوقفنا المشكلة في بدايتها فكانت النتائج مذهلة.

كما قمنا هذا العام بطرح طلب مشاركة شديد الدقة. العام الماضي كان عليهم فقط تقديم سيرة ذاتية. أما هذا العام، كان عليهم تقديم مقال، ومن ثم قمنا بمقابلتهم، وبناءً على المقابلات وضعنا قائمة أولوياتنا. سألناهم؛ إذا كانوا في غرفة حيث يوجد أناس من آراء ومعتقدات مختلفة جذرياً حول أمر ما، كيف سيتعاملون مع الأمر؟ وبناء على أجوبتهم سنقيّم مدى انفتاحهم. لدينا مقياس تصنيف، المتقدمون الأمثل كانوا أولئك الذين يمتلكون آراءهم الخاصة لكنهم مستعدون ومتحمسون لسماع آراء الأخرين. العديد من المتقدمين وقعوا في النطاق الوسطي، قائلين أنهم لن يتشاجروا مع أولئك الذين يختلفون عنهم لكنهم حتماً لن يغيروا رأيهم. وخاصة مع العديد من المشاركين العرب، بدا الأمر وكأنه مسألة تتعلق بالكبرياء، والإعتقاد بأن من يغير رأيه أو معتقده شخص أحمق.

(ن.ب): يبدو أنه خاصة في العالم العربي، هناك عدد من المؤسسات الإعلامية التقليدية -الصحف ومحطات التلفار- ليست موجودة من أجل صحافة استقصائية، إخبارية بل فقط لنقل رسائل جاهزة. هل يوجد أي حراك في هذا القطاع؟ إلى مدى ترى منشورات جديدة مثيرة للإهتمام؟ وكيف تتعاملون مع التبعية أو الإستقلال في التمويل.  

(ج.م): تاريخيّاً تتحكم الحكومات والمجموعات السياسية بالإعلام في العالم العربي. في لبنان المجموعات السياسية هي التي تتحكم بالإعلام، وفي العالم العربي بشكل أساسي الحكومات الأوتوقراطية أو أذنابهم. حتى بعد ما يسمّى "بالربيع العربي"، ما زالوا يتحكمون بالإعلام إلى حد كبير، لكن تحت قناع مختلف. فقناة الجزيرة، على سبيل المثال، والتي تملكها حكومة قطر، كانت نموذجاً للإعلام الموضوعي لوقت طويل، وكانت تمتلك رصيداً عاليًا من الإنتاج والأخبار ذات النوعية الجيدة. كان هذا حتى "الربيع العربي" حيث تحولت إلى آلة ترويج نمطية.

 الإعلام الرقمي لم يختلف كثيراً عن الإعلام التقليدي. ففي الوضع الحالي، أغلب الإعلام الرقمي هو انعكاس للإعلام التقليدي ويميل لأن يتبع أو تملكه المجموعات السياسية ذاتها. بالطبع هناك بعض الإعلام الرقمي الناشئ الذي يديره صحفيون مستقلون ومدونون يضيفون المزيد من الأصوات المستقلة، والآراء والحوارات المختلفة، لكنها مجموعة صغيرة جداً، وجمهورهم ضئيل جداً، ولم يصلوا إلى كتلة كبيرة أو مستوى فعّال بعد. من التوجهات الأخرى للإعلام الجماهيري التقليدي في لبنان تسويق الخبر والذي يطرح أخباراً حسيّة شهوانية لجذب المزيد من المتابعين والمعلنين وبالتالي المزيد من الإيرادات، وهذا على نفس المستوى من الإشكالية كالإعلام الحكومي.

يوصلنا هذا إلى موضوع الشائعات. الشائعات مشكلة كبيرة في هذا الجزء من العالم خاصةً بسبب هذه البيئة من المعرفة غير النقدية بالإعلام، وهنا أنا لا أتحدث فقط عن الشائعات التي يطلقها الصحفيون بل أيضاً الشائعات التي يطلقها الناس. الشائعات لها حياتها الخاصة وفي بعض الأحيان تصبح حقائق بالنسبة للعديد من الناس. بينما يصدّقها الكثير من الناس، قلّة قليلة تناقشها. على سبيل المثال، خطاب الكراهية أو العنصرية؛ الخطاب العنصري الذي يستهدف السوريين في لبنان وخطاب الكراهية الطائفي بين المجموعات المتشددة الشيعية والسنية. الآن، وسائل الإتصال الإجتماعي سهّلت نشر الشائعات- عندما يقوم الناس بنشر الشائعات أمر، أما عندما يقوم الصحفيون بنشرها فالموضوع إشكالي، لأن الصحفيين عليهم واجب تجاه جمهورهم، وغالباً ما يمتلكون هالة من المصداقية. عادةً الأمر ليس ترويجاً عن سوء نيّة، أو معلومات مضلّلة كما في الحرب النفسية- في بعض الأحيان الموضوع لا يتعدّى عدم الدقة، عدم الكفاءة، أو الإندفاع نحو السبق الصحفي دون التحقق منه. عندما يُزوّدك أحدهم بالمعلومات، حكم الخبرة أن يكون لديك ثلاثة مصادر مستقلة لتأكيدها، إذا لم تستطع الوصول إلى مصدر ثالث، لا يمكنك نشرها أو يمكنك أن تلقي بعض الشكوك حولها بقولك أنك لم تستطع التحقق منها من مصادر مستقلة، ومن ثم يجب أن تُنسبها إلى قائلها.

هناك أخطاء تحدث في الصحافة، لكن الناس لا يقرؤون التصحيح الذي يأتي في عدد اليوم التالي أحياناً. وأخيراً موضة "الخبر العاجل" في لبنان أصبحت مشكلة كبيرة. فهنا حتى خطأ إملائي قد يحدث فرقاً كبيراً في المعنى، خاصة باللغة العربية. مثال على ذلك قصة الخبر العاجل حول عرسال وبئر حسن منذ عدة أشهر على أحد التلفزيونات اللبنانية حيث نقطة أحدثت فرقاً هائلاً: بشكل أساسي، يعلم اللبنانيون أن عرسال ذات أغلبية سنية وبئر حسن ذات أغلبية شيعية. الخبر العاجل كان كالتالي ‘أهالي عرسال يغزون أهالي الصالحة في بئر حسن‘، بينما كان يجب أن تكون ‘أهالي عرسال يعزون أهالي الصالحة في بئر حسن‘. في بيئة تصب الزيت على النار حول نزاع سني-شيعي مزعوم، هذا الخطأ الإملائي كان من الممكن أن يؤجج نزاعاً أهلياً في لبنان. هناك فرق شاسع بين أن نقول بلدة بأغلبية سنية تغزو بلدة بأغلبية شيعية-خاصة باستخدام كلمة "يغزون" التي تٌغذي صوراً عن غزوات العرب القبليّة التاريخية- وبين القول أن البلدة الأولى تُقدّم التعازي للبلدة الثانية. على الرغم أنه إملائيا،ً الفرق هو فقط نقطة فوق حرف: غ بدلاً من ع1

---

  1. التشكيل، مثلاً النقطة فوق أو تحت الحروف أمر أساسي لقراءة صحيحة لنصوص اللغة العربية؛ أي خطأ في وضع النقاط قد يغير المعنى جذرياً. مثل هذه الأخطاء يسميها العلماء العرب القدماء التصحيف، وهو قراءة ‘أهالي عرسال يغزون أهالي الصالحة في بئر حسن‘ مقابل ‘أهالي عرسال يٌعزّون أهالي الصالحة في بئر حسن‘.

---

ترجمة علا صالح من الإنجليزية